فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكل ما طلبوه مسائل حسية؛ لذلك يأتي الرد: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51].
ومع ذلك كذَّبوا.
وأضاف قوم عاد: {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53].
هم إذن قد خدعوا أنفسهم بتسميتهم لتلك الأصنام آلهة؛ لأن الإله مَنْ يُنزل منهجًا يحدِّد من خلاله كيف يُعْبَد؛ ولم تَقُل الأصنام لهم شيئًا؛ ولم تُبلغهم منهجًا. إذن: فالقياس المنطقي يُلغي تَصوُّر تلك الأصنام كآلهة؛ فلماذا عبدوها؟ لقد عبدوها؛ لأن الفطرة تنادي كل إنسان بأن تكون له قوة مألوه لها؛ والقوة المألوه لها إن كان لها أوامر تحدُّ من شهوات النفس، فهذه الأوامر قد تكون صعبة على النفس، أما إن كانت تلك الآلهة بلا أوامر أو نواهي فهذه آلهة مريحة لمن يخدع نفسه بها، ويعبدها مظنة أنها تنفع أو تضر.
وهذه هي حُجَّة كل ادِّعاء نبوة أو ادِّعاء مَهديَّة في هذا العصر، فيدَّعي النبيُّ الكاذب النبوَّة، ويدعو للاختلاط مع النساء، وشرب الخمر، وارتكاب الموبقات، ويسمِّى ذلك دينًا.
وتجد مثل هذه الدَّعاوَي في البهائية والقاديانية؛ وغيرها من المعتقدات الزائفة.
وقولهم: {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} [هود: 53].
يعني: وما نحن بتاركي آلهتنا بسبب قولك.
وقولهم: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53].
أي: وما نحن لك بمصدِّقين، لأن (آمن) تأتي بمعاني متعددة.
فإنْ عدَّيتها بنفسها مثل قول الحق سبحانه: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4].
وإنْ عدَّيتها بحرف الباء مثل قول الحق سبحانه: {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 62]. فالمعنى يتعلّق باعتقاد الألوهية. وإن عدَّيتها بحرف اللام؛ مثل قول الحق سبحانه: {فَمَا آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83]. تكون بمعنى التصديق. يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسوء} وإن التي تُفتتح بها الآية الكريمة أداة شرطية، وأداة إن الشرطية يأتي بعدها جملة شرط، وجواب شرط، فإن لم تكن كذلك فهي تكون بمعنى النفي؛ مثل قول الحق سبحانه: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2].
وهنا يقول الحق سبحانه: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك} [هود: 54]. أي: {ما نقول إلا اعتراك}. وهكذا نعلم أن كلمة {إنْ} هنا جاءت بمعنى النفي.
و{إلا} هي أداة استثناء، وقبلها فعل هو {نقول}، وإذا وجدت أداة استثناء، ولم يذكر المستثنى منه صراحة، فاعلم أنه واحد من ثلاثة: إما أن يكون مصدر الفعل، وإما أن يكون ظرف الفعل، وإما أن يكون حال الفعل.
وعلى ذلك فمعنى الآية الكريمة:
وما نقول لك إلا أنَّ آلهتنا أصابتك بسوء؛ لأنك سَفَّهتهم وأبْطَلتَ ألوهيّتهم، وجئتَ بإلهٍ جديدٍ من عندك، فأصابتك الآلهة بسوء يراد به الجنون فأخذتَ تخلط في الكلام الذي ليس له معنى.
ويردُّ عليهم هود عليه السلام بما جاء في نفس الآية: {قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي بريء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 54].
وهو يُشهِد الله الذي يثق أنه أرسله، ويحمي ذاته، ويحمي عقله؛ لأن عقل الرسول هو الذي يدير كيفية أداء البلاغ عن الله.
والحق سبحانه وتعالى لا يمكن أن يرسل رسولًا ولا يحميه.
وقد قال الكافرون عن سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أنه مجنون؛ فأنزل الحق سبحانه وتعالى قوله الكريم: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 24].
ونحن نعلم أن المجنون لا خُلُق له، وفي هذا البيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قمة العقل؛ لأنه في قمة الخُلُق الطيِّب.
وهنا يُشهد هود عليه السلام قومه ويطالبهم أن يرجعوا إلى الفطرة السليمة، ويحكموا: أهو مجنون أم لا، ويشهدهم أيضًا أنه بريء من تلك الآلهة التي يُشركون بعبادتها من دون الله تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلام: {مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ}
وقوله: {مِن دُونِهِ} أي: من دون الله، فهم قد عبدوا أصنامًا من دون الله سبحانه، ومطلب هود عليه السلام منهم أن يكيدوا له جميعًا، وهم كثرة طاغية، وهو فرد واحد؛ وإن كادت الكثرة المتجبِّرة لواحد، فمن المتوقع أن يغلبوه، وهو عليه السلام هنا يتحداهم ويطلب منهم أن يعملوا كل مكرهم وكيدهم، وأن يقتلوه لو استطاعوا، وهذه قمة التحدي.
والتحدي هنا معجزة؛ لأنه ساعة يتحداهم فهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى ينصره، وهو عليه السلام متأكد من قوله: {أُشْهِدُ الله} [هود: 54].
الذي قاله في الآية السابقة، ولا يمكن أن يرمي مثل هذا التحدي جزافًا، لأن الإنسان لا يجازف بحياته في كلمة.
وهو لم يَقُلْ: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [يونس: 55] إلا إذا كان قد آوى إلى ركن شديد، وإنه ينطق بالكلمة عن إيمان بأن الحق سبحانه سيهبه قدرة على نفاذ الكلمة.
وهو قد أشهد الله تعالى، والله سبحانه هو أول من شهد لنفسه، يقول الحق سبحانه: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18].
وكذلك شهدت الملائكة وأولو العلم، والله سبحانه وتعالى حين شهد لنفسه فإنما يطمئننا أنه إذا ألقى أمرًا علم أنه مُنفَّذ لا محالة.
وقد أشهد هود عليه السلام ربَّه سبحانه، وهو واثق من حمايته له وما كان الحق سبحانه ليرسل رسولًا ليُمكِّن منه قومًا يُزيحوه من حركة الرسالة.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ}
يعلن لهم هود عليه السلام حقيقة أنه يتوكَّل على الله تعالى الذي لا يعلوهم فقط، ولا يرزقهم وحدهم، بل هو الآخذ بناصية كل دابَّة تدُّب في الأرض ولها حرية وحركة، والناصية هي مقدّم الرأس، وبها خصلة من الشعر.
وحين تريد إهانة واحد فأنت تمسكه من خصلة الشعر هذه وتشدُّه منها.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} [الرحمن: 41].
وفي آية أخرى يقول الله سبحانه: {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بالناصية} [العلق: 15]. إذن: فكيف لم يجرؤ قوم عاد على أن يسلِّطوا مجموعة ثعابين، وأعدادًا من الكلاب المتوحشة مثلًا على سيدنا هود عليه السلام، لم يستطيعوا ذلك، وقد أعلن لهم سبب عجزهم عن الإضرار به حين قال لهم: {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56]. ونحن نلحظ أنه عليه السلام قال في صدر الآية: {رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56]، وفي عَجزُ الآية قال: {إِنَّ رَبِّي} [هود: 56]، والسبب في قوله: {رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56] أنهم كانوا قادحين في مسألة ربوبية الحق سبحانه.
لذلك قال عليه السلام في مجال السيطرة: {رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أما في عجز الآية فقال: {إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
أي: أن الإله الواحد سبحانه له مطلق العدالة، ولم يأتِ هنا بشيء يخصُّ أربابهم؛ لأنه هنا يتحدث عن مطلق عدالة الحق سبحانه.
والحق سبحانه وتعالى على صراط مستقيم في منتهى قُدرته، وقَهْره وسيطرته، ولا شيء يُفلت منه، ومع كل قدرة الله تعالى اللامتناهية فهو لا يستعمل قهره في الظلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)}
قوله تعالى: {بِبَيِّنَةٍ}: يجوز أن تكونَ الباء للتعدية، فيتعلَّق بالفعل قبلها، أي: ما أظهرْتَ لنا بينةً قط. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ، إذ التقدير: مستقرًا أو ملتبسًا ببينة.
قوله: {عَن قَوْلِكَ} حالٌ من الضمير في {تاركي}، أي: وما نترك آلهَتنا صادرين عن قولك. ويجوز أن تكون {عن} للتعليل، كهي في قولِه تعالى: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114]، أي: إلا لأجل موعدة. والمعنى هنا: بتاركي آلهتِنا لقولك، فيتعلَّق بتاركي. وقد أشار إلى التعليل ابنُ عطية، ولكنَّ المختارَ الأول، ولم يذكر الزمخشري غيره.
{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ}
قوله تعالى: {إِلاَّ اعتراك}: الظاهرُ أن ما بعد {إلا} مفعول بالقول قبله، إذ المرادُ: إن نقول إلا هذا اللفظَ فالجملةُ محكيةٌ نحو قولك: ما قلت إلا زيد قائم. وقال أبو البقاء: الجملةُ مفسرةٌ لمصدرٍ محذوف، التقدير: إن نقول إلا قولًا هو اعتراك، ويجوز أن يكونَ موضعُها نصبًا، أي: ما نذكر إلا هذا القول وهذا غير مُرْضٍ؛ لأن الحكاية بالقول معنى ظاهر لا يَحْتاج إلى تأويل، ولا إلى تضمينِ القولِ بالذِّكْر.
وقال الزمخشري: {اعتراك} مفعول {نقول} و{إلا} لغوٌ، أي: ما نقول إلا قولنا {اعتراك}. انتهى. يعني بقولَه لَغُو أنه استثناءٌ مفرغ، وتقديره بعد ذلك تفسيرُ معنى لا إعراب، إذ ظاهرُه يقتضي أن تكونَ الجملةُ منصوبةً بمصدر محذوف، ذلك المصدرُ منصوبٌ ب {نقول} هذا الظاهر. ويُقال: اعتراه بكذا يَعْتريه، وهو افتعلَ مِنْ عَراه يَعْرُوه إذا أصابَه، والأصل: اعْتَرَوَ من العَرَوْ، مثل: اغتَرَوا مِن الغَزْو، فتحرك حرفُ العلة وانفتح ما قبله فقُلب ألفًا، وهو يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرف الجر.
قوله: {أَنِّي بريء} يجوز أن يكون من باب الإِعمال لأنَّ {أُشْهِدُ} يطلبُه، و{اشْهدوا} يطلبه أيضًا، والتقدير: أُشْهد اللَّه على أنه بريء، واشهدوا أنتم عليه أيضًا، ويكون من إعمال الثاني، لأنه لو أَعْمل الأول لأضمر في الثاني: ولا غَرْو في تنازع المختلفين في التعدي واللزوم.
و{مِمَّا تُشْركون} يجوز أن تكونَ {ما} مصدريةً، أي: مِنْ إشراككم آلهةً مِنْ دونه، أو بمعنى الذي، أي: مِن الذين تشركونه مِن آلهةٍ مِن دونه، أي أنتم الذين تجعلونها شركاءَ.
{مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)} وقوله تعالى: {جَمِيعًا}: حالٌ من فاعل {فكيدون}. وأثبت سائرُ القراء ياء {فكيدوني} في الحالين، وحَذَفوها في المرسلات.
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)}
والناصِيَةُ مَنْبِتُ الشَّعْر في مُقَدَّم الرأس، ويُسَمَّى الشعرُ النَّابِتُ أيضًا ناصِية باسم محلِّه، ونَصَوْتُ الرجل: أَخَذْتُ بناصِيته، فلامُها واو، ويقال: ناصاة بقَلْبِ يائها ألفًا، وفي الأَخْذِ بالناصية عبارةٌ عن الغَلَبة والتسلُّط وإن لم يكن آخذًا بناصيته، ولذلك كانوا إذا مَنُّوا على أسيرٍ جَزُّوا ناصيتَه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)}
ما زادهم هودُ عليه السلام بَسُطا في الآية وإيضاحًا في المعجزة إلا زادهم اللَّهِ تعالى عَمىً على عَمىً، ولم يرزقْهم بصيرةً ولا هديً، ولم يزيدوا في خطابِهم إلا بما دَلُّواعلى فَرِطِ جهالتهم، وشدة ضلالتهم بعد إطنابهم وأنتهابهم.
{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)}
وكيف ظَنُّوا أنَّ آلهتَهم تَمسُّ أعداءَهم بسوءٍ وهي تضرُّ أعداءها ولا تنفع أولياءَها؟ فهؤلاء الغوايةُ عليهم مُسْتَوْلية. ثم إن هودًا عليه السلام أفْصَحَ عن فضل ربِّه عليه؛ وصَرَّحَ بإخلاصه وحُسْنِ يقينه فقال: {إنِىّ بَرِئ مِّمّا تُشرِكُونَ}.
{مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)} فلم يَحْتَج معهم إلى تضرع واستجداء، ولا راوَدُهم في سْلم واستمهال، ولم يَتَّصْفْ في ذلك بركونٍ إلى حَوْله ومُنَّته، ولم يستند إلى جِدِّه وقوَّته بل قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)}
أخبر أنه بموعودِ الله له بنُصْرتِه واثق، وأنه في خلوص طاعته لربّه وفي صفاء معرفته (غيرُ مُفَارِقِ). اهـ.

.تفسير الآية رقم (57):

قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما استوفى تشييده أمره وهدم قولهم، أخذ يحذرهم فقال مبينًا أن العدول عما جاء به لا يكون إلا بمعالجة الطبع السليم: {فإن تولوا} ولو أدنى تولية- بما يشير إليه حذف التاء، فعليكم اللوم دوني، لأني فعلت ما عليّ: {فقد} أي بسبب أني قد: {أبلغتكم ما} أي كل شيء: {أرسلت} أي تقدم إرسالي من عند من لا مرسل في الحقيقة غيره: {به إليكم} كاملًا لم أدع منه شيئًا رجاء لإقبالكم ولا خوفًا من إعراضكم، فأبيتم إلا التكذيب لي والاستكبار عما جئت به، فالذي أرسلني ينتقم منكم فيهلككم: {ويستخلف ربي} أي يوجد المحسن إليّ بإقامتي فيما يرضيه: {قومًا غيركم} يخلفونكم في دياركم وأموالكم، فتكونون أعداءه، ويكون المستخلفون متعرضين لأن يكونوا أولياء مع كونهم ذوي بأس وقوة فيختص الضرر بكم: {ولا تضرونه} أي الله بإعراضكم: {شيئًا} ثم علل وعيده لهم بقوله مؤكدًا لأن العاصي فاعل بعصيانه فعل من يظن أن الله غافل عنه: {إن ربي} أي المحسن إليّ المدبر لمصالحي.
ولما كان الأهم في هذا السياق بيان استعلائه وقدرته، قدم قوله: {على كل شيء} صغيرًا أو كبيرًا جليل أو حقير: {حفيظ} أي عالم بكل شيء وقادر على كل شيء وبالغ الحفظ له، فيعلم ما يعمل محفوظه فيجازيه بما يستحق من نعمه ونقمه، فهو تعليل لاستخلاف غيرهم وتنزهه عن لحوق ضرر، لأن الحفظ: الحراسة، ويلزمها العلم والقدرة، فمن القدرة حافظ العين، أي لا يغلبه نوم، والحفيظة- للحمية والغضب، ومنهما معًا المحافظة- للمواظبة على الشيء؛ والتوالي عن الشيء: الذهاب إلى غير جهته إعراضًا عنه؛ والإبلاغ: إلحاق الشيء نهايته؛ والاستخلاف: جعل الثاني بدلًا من الأول يقوم مقامه؛ والضر: إيجاب الألم بفعله أو التسبب له. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا}
اعلم أن قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يعني فإن تتولوا ثم فيه وجهان: الأول تقدير الكلام فإن تتولوا لم أعاتب على تقصير في الإبلاغ وكنتم محجوبين كأنه يقول: أنتم الذين أصررتم على التكذيب.
الثاني: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ}.
ثم قال: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ} يعني يخلق بعدكم من هو أطوع لله منكم، وهذا إشارة إلى نزول عذاب الاستئصال ولا تضرونه شيئًا، يعني أن إهلاككم لا ينقص من ملكه شيئًا.
ثم قال: {إِنَّ رَبّى على كُلّ شَئ حَفِيظٌ} وفيه ثلاثة أوجه: الأول: حفيظ لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها.
الثاني: يحفظني من شركم ومكركم.
الثالث: حفيظ على كل شيء يحفظه من الهلاك إذا شاء ويهلكه إذا شاء. اهـ.